هل تعانين من إدمان التسوق المفرط؟

تحليل نفسي، اجتماعي وسلوكي شامل لظاهرة التسوق القهري وتأثيراتها

تُعد ظاهرة التسوق المفرط أو “إدمان التسوق” من الظواهر النفسية والاجتماعية المعاصرة التي تزايد انتشارها بشكل ملحوظ في المجتمعات الحديثة، خاصةً مع تطور وسائل الشراء الإلكتروني، وانتشار الثقافة الاستهلاكية التي تروّج لفكرة السعادة من خلال اقتناء السلع. يصف المختصون هذه الحالة بمصطلحات مثل “اضطراب الشراء القهري” (Compulsive Buying Disorder – CBD) أو “الشراء المرضي”، وهي حالة تتجاوز فيها الرغبة في التسوق حدود المعقول، لتتحول إلى سلوك قهري خارج عن السيطرة، قد يترك آثارًا نفسية، اجتماعية ومالية خطيرة على الأفراد، وبشكل خاص على النساء اللواتي غالبًا ما يكنّ في صلب الحملات الدعائية الموجهة من قبل الأسواق وشركات التجزئة.

المفهوم العلمي لإدمان التسوق المفرط

يعرف “إدمان التسوق” بأنه اضطراب سلوكي يتمثل في الانخراط المتكرر والمبالغ فيه في سلوكيات الشراء دون الحاجة الفعلية للمنتجات، ودون مراعاة العواقب المالية أو العاطفية لهذا السلوك. وتُعد هذه الظاهرة جزءًا من طيف أوسع من الإدمانات السلوكية مثل إدمان الإنترنت أو المقامرة، حيث يكون الدافع ليس الحاجة إلى السلع نفسها، بل الشعور بالراحة أو الهروب من المشاعر السلبية.

تشير الدراسات النفسية إلى أن الدماغ البشري، عندما ينخرط في عملية الشراء، يُفرز مادة الدوبامين، وهي المادة الكيميائية المسؤولة عن الشعور بالسعادة. في حالات الإدمان، يصبح الدماغ معتمدًا على هذه الجرعة من السعادة المؤقتة، مما يدفع الشخص لتكرار السلوك ذاته رغم إدراكه للنتائج السلبية.

المظاهر السلوكية لإدمان التسوق

تتنوع أشكال هذا السلوك القهري بين الأفراد، لكن من أبرز العلامات التي تشير إلى وجود مشكلة إدمانية ما يلي:

• الشعور بالإثارة المفرطة قبل الشراء: حيث يصبح التفكير في التسوق هو الشغل الشاغل للشخص.

• الإنفاق دون حاجة حقيقية: شراء منتجات لا يحتاجها الفرد إطلاقًا، أو شراء نسخ متعددة من نفس المنتج.

• الشعور بالذنب أو الندم بعد التسوق: لكن مع ذلك لا يتوقف السلوك.

• إخفاء المشتريات أو الفواتير عن الأسرة أو الشريك: لتجنّب المواجهة.

• الاعتماد على بطاقات الائتمان أو الاستدانة لتغطية النفقات.

• التأثير على الأداء المهني أو الاجتماعي بسبب الانشغال المستمر بالتسوق.

الأسباب النفسية والاجتماعية وراء إدمان التسوق

هناك عدة عوامل تلعب دورًا في تطور هذه الظاهرة، بعضها فردي والآخر مجتمعي. يمكن تلخيص هذه العوامل كالتالي:

1. العوامل النفسية

• القلق والاكتئاب: يسعى البعض للتسوق كوسيلة للهروب من المشاعر السلبية أو لتعويض نقص داخلي.

• انخفاض تقدير الذات: حيث يشعر البعض أن امتلاك أشياء جديدة يرفع من مكانتهم أو يمنحهم هوية اجتماعية مرغوبة.

• الإحساس بالفراغ العاطفي أو العزلة الاجتماعية: فالتسوق يصبح وسيلة لشغل الوقت وتوليد الإحساس المؤقت بالسعادة.

2. العوامل الاجتماعية والثقافية

• الإعلانات التجارية: تلعب دورًا كبيرًا في ترسيخ فكرة أن السعادة والنجاح مرتبطان بما نملك، وليس بما نحن عليه.

• الثقافة الاستهلاكية: التي تروّج لقيم الشراء المتواصل وربطها بالهوية والرفاهية.

• وسائل التواصل الاجتماعي: حيث تعرض حياة مثالية مليئة بالمنتجات الجديدة والعلامات التجارية الفاخرة، ما يُشعل لدى البعض الرغبة في تقليد الآخرين.

الفئات الأكثر عرضة لإدمان التسوق

تشير الدراسات إلى أن النساء أكثر عرضة لإدمان الشراء من الرجال، وقد يكون ذلك مرتبطًا بعدة عوامل منها:

• التركيز التسويقي المكثف على النساء.

• الارتباط النفسي بين التسوق والعناية بالذات أو تحسين المظهر.

• العوامل الهرمونية التي قد تؤثر على المزاج والاندفاع السلوكي.

لكن لا يعني ذلك أن الرجال بعيدون عن هذه الظاهرة، فهناك من الرجال من يعانون من سلوكيات قهرية تتعلق بشراء الإلكترونيات أو السيارات أو أدوات رياضية، ما يجعل الأمر مرتبطًا بالنمط النفسي والاجتماعي أكثر من مجرد التصنيف الجندري.

العواقب الصحية والنفسية لإدمان التسوق

يتسبب الإدمان على التسوق في مجموعة من الأضرار التي تتراكم بمرور الوقت وتؤثر سلبًا على جودة حياة الفرد، منها:

• التوتر النفسي الدائم بسبب الضغوط المالية.

• مشاكل زوجية أو عائلية نتيجة الإنفاق الزائد أو إخفاء المعلومات المالية.

• تراجع الأداء المهني أو الدراسي بسبب فقدان التركيز والانشغال بالسلوك الإدماني.

• الإصابة بحالات الاكتئاب أو القلق أو الشعور المزمن بالذنب.

كما أن هذا النوع من الإدمان، وإن بدا في ظاهره غير خطير مقارنة بالإدمانات الكيميائية، إلا أنه يؤسس لحالة مزمنة من فقدان السيطرة الذاتية، ويضعف قدرة الفرد على التوازن النفسي والاجتماعي.

العلاقة بين إدمان التسوق والمجتمع الرقمي

مع التحول العالمي نحو التسوق الإلكتروني وانتشار العروض الرقمية، أصبح إدمان الشراء أكثر سهولة وانتشارًا. فمن خلال بضع نقرات، يستطيع أي شخص شراء ما يريد دون الحاجة حتى لمغادرة المنزل. كما أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستعملة في المتاجر الرقمية باتت توجّه الإعلانات بحسب سلوك المستخدم واهتماماته، مما يُغذي الإدمان بشكل غير مباشر.

الجدول: مقارنة بين التسوق الصحي والتسوق الإدماني

طرق الوقاية والتعافي من إدمان التسوق

الخطوة الأولى نحو العلاج هي الاعتراف بالمشكلة وفهم أبعادها النفسية. بعد ذلك، يمكن اعتماد عدة استراتيجيات تساعد على استعادة السيطرة، مثل:

• المتابعة النفسية السلوكية: إذ يُوصى بالعلاج السلوكي المعرفي (CBT) الذي يُعد من أنجح الأساليب في تعديل الأنماط القهرية.

• وضع ميزانية صارمة للتسوق والالتزام بها.

• الامتناع عن استخدام بطاقات الائتمان، والاعتماد على الدفع النقدي فقط.

• الاحتفاظ بسجل مفصل لجميع النفقات الشهرية لتحليل سلوك الشراء.

• الابتعاد عن مواقع التسوق الإلكترونية وإلغاء الاشتراكات في النشرات الترويجية.

• تعزيز تقدير الذات بطرق غير استهلاكية، مثل ممارسة الهوايات أو التطوع المجتمعي.

كما أن دور العائلة في الدعم النفسي مهم للغاية، سواء من خلال تقديم الدعم العاطفي أو من خلال المساعدة في التنظيم المالي.

الخاتمة

إدمان التسوق ليس مجرد عادة سيئة أو تبذير مؤقت، بل هو اضطراب سلوكي معقد يتطلب وعياً، فهماً، وتدخلاً منهجياً للتعافي منه. في عالم يتغذى على الاستهلاك ويقيس النجاح بعدد المقتنيات، فإن القدرة على مقاومة هذا التيار باتت ضرورة شخصية ومجتمعية. إن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب تضافر الجهود بين الفرد والأسرة والمجتمع، مع ضرورة إدراجها ضمن برامج التوعية النفسية والمالية لتقليل انتشارها وتداعياتها المتعددة.

المراجع:

1. Müller, A., Mitchell, J. E., & de Zwaan, M. (2015). Compulsive buying: Features and treatment. CNS Spectrums.

2. Black, D. W. (2007). A review of compulsive buying disorder. World Psychiatry.